لو وخز أحدكم دُبّاً عدة مرات، فالاحتمال الأرجح هو أنه سيتعرض إلى النهش. وفي الأزمة الحالية التي انتهت إلى حرب مدمرة في جورجيا، فإن هذا القول يصف بالضبط النقطة التي يجد فيها الغرب نفسه اليوم في مخاضات علاقته مع روسيا. وفي خضم التقارير المتضاربة عن مدى التزام روسيا بوقف إطلاق النار، كان هناك شيء واضح، وهو أن موسكو قد حققت نصراً جيوبوليتيكياً الآن. وهذا النصر هو الذي دعا وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" إلى أن يدلي بتصريح واثق يقول فيه: "على الولايات المتحدة أن تختار بين مشروع افتراضي مع جورجيا أو شراكة حقيقية مع روسيا". وبعد عدة أيام من الارتباك، حاول الغرب الآن التظاهر بالقيام برد فعل يتمثل في زيارة وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" إلى جورجيا لإظهار دعم أميركا لهذا البلد، وقيام طائرات شحن تابعة لسلاح الجو الأميركي بتفريغ شحنات صغيرة من المساعدات الإنسانية في مطاراتها، كما سيعقد اجتماع لوزراء دول "الناتو" اليوم (الثلاثاء) لبحث الأزمة. وعندما يفعل الوزراء هذا، فعليهم أن يتذكروا كيف وصلنا إلى هذه النقطة. فانتهاء الحرب الباردة منذ عقدين من الزمن، ترك روسيا في حالة من الإعياء والضعف الشديدين، سارع الغرب، عملاً بقوانين اللعبة السياسية الصارمة، إلى استغلالهما. وفي هذا الإطار بدأ "الناتو" الذي كان قد أُنشئ من أجل احتواء القوة السوفييتية السابقة برنامجاً جريئاً للتوسع شرقاً. وعلى رغم أن الكرملين عارض ذلك بشدة إلا أن الغرب تجاهل احتجاجاته باستمرار. وفي عقد التسعينيات، أعاد "الناتو" تعريف الغرض الذي أنشئ من أجله. فحسب المقولة التي انتشرت حينها كان على الحلف إما أن "يخرج من المنطقة" وإما أن "يخرج من العمل"! وللخروج من المنطقة، كان على الحلف أن يعيد صياغة نفسه وعقيدته ومن ثم التحول إلى أداة للتدخل. وسرعان ما وجد الحلف في صورته الجديدة عملاً يبرر بقاءه قائماً على أرض الواقع، عندما شن حرباً ضد صربيا بالنيابة عن ألبان كوسوفو على رغم الاعتراضات الروسية. وفي الحقبة الحالية تصمم إدارة بوش المهمومة بمسألة حماية أوروبا من أي هجوم صاروخي تشنه عليها إيران، على نشر منظومة رادار صاروخي متطور في جمهورية التشيك، ومعدات لاعتراض الصواريخ في بولندا. وكان من الطبيعي بالنسبة للكرملين الذي رأى أن هذه المنظومات موجهة ضد بلاده في الأساس، أن يعترض ولكن الغرب تجاهل اعتراضه أيضاً. ولكن روسيا الآن لم تعد ضعيفة. ففي عهد فلاديمير بوتين -الذي لا يزال يعتبر المحرك الرئيسي للأحداث في منصبه الجديد كرئيس للوزراء تحت قيادة "ديمتري ميدفيديف"- لم تعد روسيا على استعداد للاستمرار في لعب دور الدولة الساذجة التي يسهل خداعها. ولاشك أن إقدامها على غزو جورجيا التي تعتبر من أصدقاء الولايات المتحدة الحميمين يهدف إلى إرسال رسالة واضحة إلى الغرب وهي: إلى هنا... وكفى! وبعد فترة طويلة من التعرض للخسارة والتهميش فإن الاحتمال الأكبر هو أن روسيا هي من سيستمر في التحدي هذه المرة. فالغرب الذي يحتاج إلى النفط والغاز الروسيين بصورة ماسَّة، ليس في وضع يسمح له بفرض أية عقوبات، يمكن أن يكون لها تأثير على موسكو. علاوة على ذلك، فإننا حتى لو فرضنا أن "الناتو" كانت لديه النية لإنقاذ جورجيا، فإن الحقيقة هي أنه يفتقر إلى القدرة للقيام بذلك، بعد أن خرجت قواته من نطاق المنطقة التي كانت محددة له في الأساس، وانتشرت على مساحة واسعة، وأصبحت مثقلة بالمهام. أما إدارة بوش، وعلى رغم القوة العسكرية التي تتباهى بها، فإنه ليس في مقدورها أن تفعل أكثر من الاحتجاج والشجب، وتقديم مساعدة رمزية لجورجيا. هل كل ذلك يعني أننا سنعود إلى أوضاع مثل تلك التي كانت سائدة في حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما نجح الطغاة التوتاليتاريون في ابتلاع دول صغيرة دون أن يتصدى لهم أحد؟ لا أعتقد ذلك، على الأقل إذا ما تصرف الغرب بشكل عقلاني. صحيح أن روسيا ليست صديقة لنا، ولكن ليس هناك من حاجة لتحويلها أيضاً إلى عدو.. لماذا؟ لأن طموحات الكرملين ليست أيديولوجية وإنما هي طموحات إمبريالية، ولأن "بوتين" ليس حاكماً شمولياً، وإنما هو حاكم وطني مصمم على جعل الجميع يتعاملون مع روسيا باحترام، بل بتوقير، خصوصاً في المنطقة التي يعرّفها هو بأنها "خارج روسيا القريب"، أما خارج هذا "الخارج القريب"، فإن خطر روسيا محدود، ولا يمكن المقارنة بينه وبين الخطر الذي كان يشكله الاتحاد السوفييتي السابق. أما عندما يتعلق الأمر باستعراض القوة فإن ما يمكن قوله هو إن الجيش الروسي اليوم ليس سوى ظل باهت من الجيش الأحمر السوفييتي في الماضي. والدرس الرئيسي الذي يمكن الخروج به من الأزمة والحرب الجورجية هو: أن "الإجازة" التي تمتعت بها أوروبا خارج التاريخ، والتي كانت تأخذ فيها موضوع أمنها القومي على أنه أمر مُسلَّم به، قد انتهت.. كما أن تمدد حلف "الناتو" شرقاً قد وصل إلى منتهاه. والأولوية التي تواجه الغرب في الوقت الراهن -وخصوصاً القوى الأوروبية الرئيسية- هو أن يأخذ الأمر على محمل الجد، ويبدأ في إصلاح دفاعاته، وإعادة توجيه مساره، وهو ما يستلزم أيضاً إعادة بناء "الناتو" نفسه. فالحلف القادر على الدفاع عن حدوده، والتعبير عن نيته في القيام بذلك، لن يكون لديه سوى القليل مما يمكن أن يخافه من روسيا بوتين. وفي كل الأحوال، فإن رد فعله على روسيا التي استعرضت عضلاتها في جورجيا، يجب أن يكون واضحاً أيضاً ولا لبس فيه: إلى هنا وكفى! أندرو جيه. بيسفيتش أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"